بسم الله الرحمن الرحيم
من ينكر أن الفراشة جميلة !! .. لكن هل أحداً يعرف ما هو سر جمال الفراشة؟
ربما لأن ألوانها جميلة وزاهية .. وربما لمرح طيرانها الهادئ .. وربما لأنها صديقة الزهور وزينتها .. وربما كل هذا مجتمعاً
شذا كانت فراشة عماد وثمرة حب عنوانه عطاء بلا حدود
يوم أول
حين عاد عماد من عمله .. وجد زوجته تُصلي العشاء .. فجال ببصره في أرجاء منزله الصغير باحثاً عن شذا التي دائماً تستقبل عودته بفرحةً تُنسيه تعب يومه وهموم الخارج
وقبل أن يبادر في البحث عنها .. كانت زوجته قد أنهت صلاتها
فقالت له دون أن يسأل : نامت بعد أن طال انتظارها وهي واقفة على الكرسي تنتظرك من خلف النافذة
ذهبت أم شذا تعد طعام العشاء بينما تسلل عماد إلى حيث تنام شذا كأنه يخشى أن يراه أحد
كانت شذا نائمة وعلى وجهها الطفولي تنطق قسمات البراءة التي يخشى عماد أن يخدشها ما يحدث خلف جدران منزلهم الصغير
ففي الخارج مدينة تسكنها سنابل أذبلتها الأحزان وخيمت على أسطح منازلها سُحب من آلام وخوف وقلق لا ينتهي
كم كان يخشى عماد على شذا_ابنة العامين_حين تكبر وتعرف أن الدنيا ليست حضن أبيها وحنان أمها فقط .. وأن هناك شياطين على هيئة بشر تنشر الموت والخراب كلما سنحت لها الفرصة أو وجدت لذلك سبيلا
ازدادت رغبته بأن يطبع قبلة على وجنة شذا التي سافرت إلى عالم أحلام الأطفال في نومها .. و ما إن انحنى كي يقبلها حتى استوقفته شهقة أتت من خلفه .. فنظر .. فإذ بأمها تقف مستنكرة .. فابتسم خجلاً مغادراً الغرفة
كنت أعرف انك ستحاول إيقاظها .. قالت الأم هامسة
حاول عماد أن يشرح .. لكن الأم وضعت يدها على فمه وقالت هامسة : اخرج فأنت تتعمد إيقاظها
غادر عماد الغرفة وجلس يقلب في قنوات التلفزيون لعله يقع على شيء مفيد أو خبراً يُثلج صدره .. ولكنه فوجئ بشذا تدخل من باب الغرفة وهي تتعثر في خطواتها من أثر النعاس.. فاتجهت إليه ملقيتاً نفسها بعشوائية في أحضانه.. فضمها إلى صدره قائلاً : لن تصدق أمك أنك استيقظت من تلقاء نفسك .. من يستطيع أن يقنعها الآن
أخرجت شذا يدها من حضن أبيها ورفعت إبهامها في وجهه كي تُريه جرحاً صغير لفته أمها بلاصق للجروح .. فأمسك يدها وقبل إصبعها في مكان الجرح سائلاً إياها عن سببه
يبدو أن اهتمام عماد بجرحها جعلها تطلق كلمات الشكوى بعناقيد حروف لم تنضج بعد .. هي أحب عنده من كل أنغام الدنيا وأناشيدها .. فهو يحب أن يستمع لكلماتها ونطق أسماء الأشياء بلغتها الخاصة .. خصوصاً حين تُسمي الشيء باسم لا يتوقعه أحد
يوماً آخر
تحاول شذا أن تسحب كرسياً نحو النافذة كي تقف عليه وتنتظر من خلف النافذة عودة عماد كما تفعل منذ أن تعلمت السير
فهاهو ضوء الشمس يخفت وبدأت تتعالى أصوات العصافير وهي تودع النهار عائدةً لأعشاشها .. وهذا بالنسبة لها يعني أنه قد حانت عودة عماد من عمله
ساعدتها أمها كي تقف على الكرسي وذهبت كي تُنهي بعض أعمالها في المطبخ .. وبقيت عيون شذا الصغيرة تراقب عن كثب مدخل الحي باهتمام بالغ
عماد بالنسبة لشذا هو زميل اللعب .. فلا يوجد أطفال في المنزل يشاركونها لعبها فكانت تنظر له على أنه طفل مثلها وإن كان كبيرا .. لم تكن تناديه بـ بابا كما يفعل الأبناء مع الأباء .. بل كانت تناديه باسمه بحذف العين .. وهي تعتبره أيضاً حضن الأمان حين تغضب منها أمها .. فكثيراً ما احتمت به حين حاولت أمها عقابها أو لومها على شيء فعلته .. كانت ترى من خلاله الدنيا حين يحملها وينزل إلى الشارع أو يذهب لأحد أصدقاءه ..فهو الأب والأخ والحضن الدافئ حين تمرض أو يُصيبها مكروه
كل شيء يحبه عماد تحبه شذا .. حتى بندقية عماد التي في عينيها مجرد لعبة يلعب بها عماد وحده .. كانت تحبها أيضاً بالرغم من ما تسببه لها من غيرة
تحولت نظرة الترقب والانتظار إلى فرحة عارمة حين لمحت شذا عماد على مدخل الحي فنزلت من على كرسيها واتجهت صوب باب البيت تهتف بفرح عماد عماد
لحظات و فتح عماد باب المنزل ليجدها تنتظر بفستانها المليء برسومات الزهور والورود .. فيجلس على ركبتيه فاتحاً ذراعيه .. وتندفع بدورها نحوه في عناق يومي هو بأمس الحاجة إليه منها .. ثم يحملها ويقف وهي تضع يدها في جيبه وتخرج الحلوى التي اشتراها لها
لا أدري متى ستناديك بأبي
هل تريدين أن تحرميني سماع اسمي من أجمل فمٍ في الدنيا ؟
رحم الله تلك الأيام .. كنت تقول عني هذا في أول أيام زواجنا
ضحك عماد من كلام زوجته ثم قال: وهل هناك ضير في أن تشبه البنت أمها
كان هناك شعور غريب لدى عماد بأن يبقى بجوار شذا أطول فترة ممكنة .. فهو لم يذهب يغير ملابسه كالعادة .. بل بقي حاملاً ابنته يفتح لها غلاف الحلوى ويلاعبها ويتحدث معها حتى عن أشياء لا تفهمها
وهي أيضاً كانت تُريه في كل مرة جرح إصبعها وتسعد كثيراً حين يقبله ويضمها إلى صدره مشفقاً عليها ..
و لعلها كانت تفعل هذا عمداً كي تحظى بهذا العناق .. فالأطفال يشعرون بحنان أهلهم حين يضمونهم إلى صدورهم .. فيمنحهم هذا الحنان مزيدا من الشعور بالأمن والاطمئنان
بعد أن تأخر الوقت .. أرادت أمها أن تأخذها للنوم فقد حان معاد نومها .. ولكنها رفضت وتشبثت بوالدها ورفضت حتى طلب والدها بأن تذهب إلى النوم بالرغم من أنها تطيعه طاعةً عمياء ولا ترد له طلب
تذمرت الأم واتهمت عماد بأنه يبالغ في دلالها
أقنع عماد زوجته بأن تتركها الليلة فقط ..فهو أيضاً لا يريدها أن تفارقه .. وحتى يُخفف من تذمر زوجته قال :
نأخذ أصوات الأغلبية .. من يريد أن تسهر شذا مع والدها فليرفع يده .. وقام برفع يده فعلاً .. فقلدته شذا ورفعت يدها الصغيرة بمرح طفولي دون أن تفهم شيء
وهنا قال عماد ضاحكاً : أغلبية
حسناً سأذهب لكي الملابس وعليك أن تجعلها تنام فالسهر ليس مفيداً لها وسيربك نظام نومها
بدأ عماد يقلب في قنوات التلفزيون كي يشاهد أخبار الساعة العاشرة .. وأثناء مروره على قنوات التلفزيون .. مر على قناة أطفال فيها فيلم كرتون .. فأصدرت شذا صوتاً فهم منه أنها تريد هذه القناة .. فابتسم موجهاً حديثه لها :
معك حق .. هذا أفضل من الأخبار .. ألست معي أن صناعة الأخبار أفضل من الاستماع إليها ؟ .. أومأت شذا برأسها موافقة كلامه الذي جاء على صيغة سؤال وكأنها فهمت حديثه
ذهب عماد وأحضر بندقيته يتفحصها إن كانت بحاجة إلى تنظيف مستغلاً اهتمام شذا بالرسوم المتحركة
وبينما هو غارق باهتمام في تفحص البندقية .. كانت شذا تنظر إليه مدركة أن ما بيده ذو أهمية وليس في استطاعتها أن تشاركه ما يفعل بسبب علامات الجدية والاهتمام التي تبدو على وجهه حين يمسك بهذا الشيء .. فاكتفت بالنظر إليه وتركت ما يحدث في التلفزيون طالما والدها لا يشاركها المشاهدة .. فهي تحب أن تشاهد هذه الأفلام لأنها ترى عماد يضحك فتضحك على ضحكه وليس على ما تشاهده
كان عماد منهمكاً بما في يده .. فنظر بطرف عينه ظناً منه أن شذا قد نامت .. و ما إن نظر إليها حتى وقعت عينيه في عينيها الصغيرتين وهي تنظر إليه بشغف و اهتمام .. فأعاد نظره لما في يده وبدا على وجهه شبح ابتسامة حاول أن يُخفيها كي تبقى شذا في مكانها و لا تعتبر ابتسامته دعوة منه للعب معه
فنظر إليها مرة أخرى بعد إن استطاع ضبط نفسه وكتم ابتسامته .. ولكن على ما يبدو أن شذا لمحت شبح ابتسامته فابتسمت بثغرها الصغير كي تجذب انتباه أبيها .. وما إن رآها عماد تبتسم حتى ضحك بصوت مسموع شجعها على الوقوف والاقتراب منه لترمي نفسها مرةً أخرى في أحضانه بمرح
في نفس الوقت الذي كانت شذا فيه بين أذرع عماد كان التيار الكهربائي ينقطع عن البيت والمدينة كلها
لم يكن ينقص هذه المدينة إلا أن تنقطع عنها الكهرباء لتحول بيوتها الفقيرة إلى زنازين يحاصرها الظلام كما يحاصرها الظلم
ضم عماد شذا إليه أكثر حتى لا تشعر بالخوف من الظلام المفاجئ .. ثم هللت فرحاً حين رأت أمها وفي يدها شمعة .. فقد كانت تحب الشموع كثيراً .. وكان عماد يرى أن هناك وجه شبه كبير بينها وبين الشمعة ..فهي شمعة حياته ونور قلبه
لكن استمتاع الأسرة الصغيرة والتفافهم حول الشمعة لم يدم طويلاً .. فقد تعالى نعيق البوم في سماء المدينة .. و ارتجت الأرض تحت سنابك الشياطين المنطلقة من أوكارها لتدوس سنابل المدينة الحزينة
إنه اجتياح
لم يكن يحتاج الأمر لكثير من التفكير في مثل هذه الظروف فالسيناريو معروف ومكرر
تناول عماد بندقيته وعتاده مودعاً زوجته وابنته الصغيرة
ولحقت به الأم على باب المنزل حاملةً شذا تودعه وتدعوا له بالنصر والتوفيق
التفت عماد إلى ابنته واقترب منها كي يقبلها .. فظنت أنه سيأخذها معه فألقت بنفسها عليه كي يحملها ..ولكنه قبلها بسرعة وغادر إلى ما هو أحب عنده من الأهل والبيت والأبناء
يوم أخير
في ساعات الظهيرة حملت الأم ابنتها شذا متجهةً بها نحو بيت أهل زوجها القريب من بيتهم
كانت الشياطين قد غادرت المدينة بعد أن عاثت فيها خراباً وتدمير
وبينما الشوارع تعج برائحة البارود المجبول بعبق الدماء التي سفكتها الأيدي الآثمة .. كانت الأم تحث خطها مسرعة كأنها تُريد أن تلحق شيئاً سيفوتها
شقت أم شذا طريقها وسط الجماهير الغفيرة التي تجمعت حول منزل أبو عماد والجميع يفسح لها الطريق كأنهم يعرفونها
كان المنزل مليء أيضاً بوجوه تعرفها وأخرى لا تعرفها .. وشقت هذه المرة طريقها بصعوبة بالغة وسط بكاء النساء والأطفال الذين تجمعوا حول جسد عماد يلقون عليه نظرة الوداع قبل أن يحملوه للصلاة عليه في المسجد .. ثم ينطلقوا به مسرعين في مسيرة جديدة لقافلة أخرى من قوافل الشهداء
اقتربت الأم برباطة جأش تدربت عليها كثيراً حتى تُلقي بدورها نظرة الوداع الأخيرة .. وبينما تحاول كتم عبراتها وحبس دموعها كما وصاها عماد .. كانت شذا تبكي خوفاً بسبب الموقف المريب الذي ساد المكان .. فهي لم تكن تعرف ما الذي يحدث حولها وما الذي يجعل جدتها وعماتها يبكون
لم تستطع الأم استيعاب الموقف فسقطت مغشياً عليها حين رأت زوجها
وبينما انشغل الجميع بزوجة عماد .. كانت ابنته تخلص نفسها من يد أمها وسط الزحام لتقترب منه بعد أن وقع بصرها عليه
توقفت عن البكاء واقتربت أكثر من وجه أبيها لتلمح ابتسامته التي كانت دائماً مفتاح ابتسامتها .. فابتسمت شذا أيضاً واقتربت من وجه أبيها الشهيد أكثر وهي تحسبه نائماً لتجد خدشاً تحت عينيه .. فنظرت في إصبعها المجروح ثم قامت بتقبيل جرح أبيها كما كان يفعل مع جرحها
يوماً .. يشبه كل الأيام
كانت خالات شذا يحاولن كفها عن البكاء وتحاول هي أن تتملص من أيديهن .. فهي لا تريد أن يحملها أحد ولا حتى أمها المريضة منذ استشهاد زوجها .. لم تكف شذا عن البكاء إلا بعد أن سمحوا لها أن تنزل على الأرض .. فأسرعت نحو كرسيها تجره بإصرار نحو النافذة لتقف عليه لوحدها كي تنظر من خلف النافذة وتنتظر أبيها كما تعودت دائماً
بقيت شذا واقفة تدقق في وجوه الواردين على الحي تبحث في وجوههم عن وجه أبيها من خلف زجاج النافذة ودموعها لم تجف بعد .. واستمرت هكذا حتى توقفت أصوات العصافير العائدة إلى أعشاشها عن الشدو .. وغابت الشمس وبدأت تظهر النجوم في السماء .. فهي لا تعرف أن عماد قد رحل نحو النجوم وترك لها إرثاً ستفخر به طيلة حياتها .. ورسالةً بيضاء مُغلقة تقرأها حين تكبر.. كتب على غلافها
حبيبتي شذا
ضع في يدي القيد الهب اضلعي *** بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة *** او نزع ايماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ***ربي وربي ناصري ومعيني