بسم الله الرحمن الرحيم
(تلخيص وتعقيب)
التنمية المتواصلة : المفاهيم والمستلزمات
(تقييم للفكر الوضعي ورؤية إسلامية)
المناقش : محمد هاشم عوض*
I- ملخص الدراسة
1) الدراسة حوت استعراضا شاملا لأدبيات الموضوع الذي تناولته . استعان فيه مقدمها بثمانية وثلاثين مرجعا منها 6 من التراث الإسلامي و 9 حديثة باللغة العربية و 23 باللغة الانجليزية وشملت الدراسة مختلف جوانب وقضايا موضوعها بدءا بمفهوم التنمية المتواصلة وما يرمز إليه البعض يعدالة توزيع الموارد الطبيعية بين الأجيال المتعاقبة ، وحماية البيئة من الاستنزاف بالتنمية المتواصلة التي يوضح الكاتب بروزها في الفكر الوضعي وفي رؤية المفكرين الإسلاميين مبينا سبق الفكر الاقتصادي الإسلامي المرتكز على مفهوم إلزام الإنسان بإعمار الأرض وعدم الإفساد فيها ، وعدم تنبه الفكر الوضعي له إلا في دعوة آدم سميث وريكاردو للحد من آثار النمو السكاني المتسارع على الموارد الطبيعية . إلا أن الفكر الكلاسيكي الذي يمثله هذان الاقتصاديان كان يحد من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي مع الدعوة لتعظيم المتعة (وليس المنفعة) الشخصية على نحو يسارع باستنزاف الموارد حتى ولو توقف نمو السكان. كما أن الفكر الكلاسيكي لم ينبه إلى مخاطر التصنيع المتزايدة على البيئة.
2) الدراسة أوضحت أيضا إضرار النشاطين الحكومي والخاص في الدول الصناعية بالبيئة التي تسببها السدود المائية وأساليب الري والمخلفات والعوادم الصناعية والمبيدات الكيماوية الزراعية ، وذلك في إطار السوق الذي لاتحكمه قوانين أو آليات أو سياسات لحماية البيئة . ولهذا رآى الكاتب ضرورة تدخل الدول المباشر في نشاط السوق لحماية البيئة تأمينا للتنمية المتواصلة.
3) أوضح الكاتب أن أولويات ومثاليات التنمية المتواصلة عند بعض المفكرين يجب أن تكون لصحة العالم البيئية والبيولوجية وليس للمصلحة الاقتصادية ، وأن يكون التركيز على الحد من تلويث الهواء والتربة والمياه مهما كانت التكلفة الاقتصادية والسياسية وذلك بقوانين وميثاق أخلاقي بهم يتم تأمين رفاه الأجيال القادمة . كما يرى هؤلاء المفكرون تنظيم نمو السكان ومنح المرأة المكانة اللائقة بها على نحو يختلف عن نمطية الأمومة السائدة في تفكير الرجال.
4) تبين الدراسة الارتباط القوي بين محاربة الفقر وحماية البيئة ومساعي الأمم المتحدة لرفع مستوى معيشة الفقراء - خاصة الذين يعانون من فترات جفاف أو حروب أهلية- باستراتيجيات ملائمة تستخدم القدر الأدنى من المدخلات لانتاج القدر الأكبر من المخرجات مع العدالة الاجتماعية داخل المجتمع وبين الأجيال المتعاقبة في إطار التنمية المتواصلة.
5) ينقل الكاتب ما ناقشه مؤتمر ريودي دجانيرو-البرازيل عام 1992 من ضرورة اضطلاع حكومات ديمقراطية قوية بمسئولية تخطيط ومراقبة استخدام الموارد الطبيعية مستعينة بالمنظمات الطوعية والجمعيات الأهلية التي لا تعمل لأجل الربح . كما تدعو لاضطلاع الحكومات مع المنظمات الطوعية والأهلية باتخاذ القرارات المناسبة للتنمية المتواصلة على المستوى القومي وحتى الدولي.
6) يقوم الباحث بتقويم مقدرة علم الاقتصاد الوضعي على مسايرة التنظير لمستلزمات التنمية المتواصلة حتى ولو بفرضيات مثالية تخضع للاختبار العملي علما بأن خبراءه يؤكدون أنه علم واقعي غير خاضع للقيم المثالية أو مهتم بالقضايا الأخلاقية . إلا أن بعض الاقتصاديين نبهوا إلى أن هذا المفهوم لما يسمى بالاقتصاد البحت لا يحقق تلقائيا وباستمرار الانتاج الأعظم . وهذا ما أبرز المدرسة الكينزية الداعية لتدخل الدولة سياسيا ماليا ونقديا للتخلص من الكساد . لكن مبادئ اقتصاد الرفاه ركزت على الماديات خاصة بانتاج يزيد من متع المستهلكين والتي تصبح معيار تقدم الأمم اقتصاديا . وهذا الانشغال بالمتعة في إطار فلسفة الثروة جعل الاقتصاد الوضعي ينسى مخاطر التسابق في الانتاج على حساب البيئة المتدهورة من تزايد الأدخنة والغازات والعوادم الصناعية التي تلقى في التربة والأنهار والبحار والمحيطات ، وكذلك المبيدات الحشرية والكيماويات الصناعية التي تسمد بها الأرض وهذا ما يستدعي مثيلا لكينز الذي أقنع الحكومة بالتدخل في السوق الحر لإنهاء الكساد العظيم. ولكن لا يوجد اليوم نظير لكينز يقنع العالم الحر بالتدخل لدرء الخطر المحدق بالعالم.
7) يتناول الباحث كيف يمكن التنظير للاستهلاك المعتدل والتنوع في إطار آليات السوق الحر خاصة أن اقتصاديات الرفاه التي اهتمت بهذه القضايا لم نقدم شيئا ملموسا في هذا المجال يجعل رجال الأعمال يعظمون أرباحهم بأقل ضرر على البيئة تتحمله الأجيال القادمة ، وهل يمكن فعل شئ في عالم الاقتصاد الحر الذي تسوده شعارات الخصخصة والعولمة وتخلي الحكومات عن مسئولية اشباع الاحتياجات العامة ؟ أم أن الاقتصاد الوضعي الذي يتجاهل هذه التحديات سيختفي مفسحا المجال لعلم اقتصاد جديد يستجيب للمعطيات الجديدة؟
8) يرى الكاتب أن الفكر الإسلامي شمل معظم أهداف التنمية المتواصلة بمختلف مفاهيمها ، وذلك باحكام شرعية وقيم إسلامية تدعو لترشيد الاستهلاك بعيدا عن الإسراف ، والملكيات الخاصة في إعمار الأرض بلا إفساد فيها لصالح الأجيال المتعاقبة . ويؤكد التزام المجتمع الإسلامي بهذه الموجهات برقابة حكومية تعمل بشرع الله للمنتجين والمستهلكين والقيام متى لزم الأمر بما يعجز آليات السوق عن تحقيقه واصلاح أي خلل في تلك الآليات . والدولة والأشخاص ملزمون باشباع حاجات الفقراء والمساكين وإيصالهم لمستوى الاكتفاء الذاتي . وذلك بالزكاة الفرضية والصدقات الطوعية والقروض الحسنة وغيرها مما يستأصل الفقر.
9) يشير الباحث إلى أن استمرار النظام الاقتصاد الاسلامي على مدى أربعة عشر قرنا تؤكد الاجتهادات المتأخرة صلاحية قواعده للتطبيق في كل زمان ومكان . وقد شملت أفكار باحثيه سلوك المستهلك والمنتج في ظل نظام ملتزم بالمصلحة العامة للمجتمع والعدالة في المعاملات التجارية والمالية وفي توزيع الدخل والثروات بين أفراد المجتمع . كما يشمل الفكر الاقتصادي الإسلامي قضية التنمية بمفهوم أوسع وأعمق منهجا وأكثر تماسكا من قضية التنمية المتواصلة في الفكر الوضعي الذي قد يستفيد كثيرا من سابقه في بحث قضية التنمية المتواصلة بأبعادها المختلفة.
10) يؤكد البحث أن المفهوم الإسلامي للتنمية المتواصلة مرتبط بإيمان عميق باتصال الحياة الدنيوية بأخرى أخروية يوجب الإعداد لهما معا في الحياة الأولى بأعمال مادية وروحية تحقق للإنسان أقصى درجات الرفاه المتوازن حقا . ويورد الباحث مفاهيم إسلامية للتنمية مستخلصة من قوله تعالى : [هو أنشأكم من الأرض واسخلفكم فيها] (هود: 61) . ويورد الباحث اجتهادات للاسلاميين المعاصرين في تحديد المفهوم الاسلامي للتنمية (منها ثلاثة للباحث نفسه) وربما نستطيع توحيدها على النحو التالي (من صفحة 24 من البحث):
"التنمية المتواصلة هي طلب عمارة الأرض والتمسك بعقيدة الإسلام – عقيدة التوحيد والربوبية والاستخلاف – في طلب عمارة الأرض وفق شرع الله بالقيام بالنشاط الانتاجي المفضي للكسب الحلال في مناخ اقتصادي واجتماعي يتوفر فيه الإيمان والتقوى وسيادة القيم الإسلامية وتجنب الحرام والاستغفار من ارتكابه مما يرسل السماء مدرارا ويزيد المال والبنين والزرع والماء فيحقق الكفاية والحياة الطيبة لأفراد المجتمع رجالا ونساءا وشبابا وطلابا".
II- ملاحظات حول البحث
1- اختار الباحث عبارة التنمية المتواصلة ترجمة للمصطلح الانجليزي sustainable development . ولكن الترجمة السائدة اليوم لهذا المصطلح هي "التنمية المستدامة" لأن كلمةsustainable الانجليزية يترجمها قاموس ويبستر Webster Dictionary بأنها to give support أو to provide sustenance ويعتبرها القاموس adjective أي صفة . كلمة sustainable تصف التنمية بأنها مدعومة أو مستندة على قوة ما تمنحها الاستمرارية . ووصف التنمية بأنها متواصلة (اسم فاعل نحوا) يوحي بأنها تتواصل ذاتيا في حين أن المقصود هو تنمية مدعومة (اسم مفعول) . ولهذا فإن مصطلح "التنمية المستدامة" يبدو الترجمة الأصح للمصطلح الانجليزي.
2- الله تعالى كلف الانسان بإعمار الأرض ولكنه سخر له في إعماره للأرض الكون كله كما تبين الآية الكريمة : [وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون] (الجاثية:131) بل أنه تعالى أشار إلى تطلع الإنس للوصول لمواقع أخرى في الكون وذلك في قوله تعالى :[يامعشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ما تنفذون إلا بسلطان] (الرحمن:34). وفسر السلطان المذكور بأنه سلطان العلم . وهناك حديث يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم فحواه أن لو تعلقت همة ابن آدم بالثريا لنالها . وقد وصل البشر في النصف الأخير من القرن العشرين إلى القمر . وهذا كله يدل على الموارد الكونية الهائلة المسخرة للبشر الذين استغلوا بالفعل مواد الأرض ومياهها وهواءها وطاقة الشمس بل وطاقة الذرة من ما يوحي بأنه لا حدود للموارد الممكن استغلالها . ولكن هذا لا يبيح إهدار الموارد التي هي نعمة من الله لكل الأجيال وشكرها حمده والمحافظة عليها.
3- الإفساد الشامل في الأرض في البر والبحر – وما ولده من كرب أبرزه الله تعالى في محكم تنزيله ، وذلك بقوله سبحانه :[ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذين عملوا لعلهم يرجعون] (آدم:41) . ويقول المفسرون (مثل جلال الدين السيوطي ) أنه كان يتمثل في القفار بقحط المطر وقلة النبات وفي البلاد التي على الأنهار بقلة مائها . وهذا ما نشهده اليوم بجانب ما تنقله أجهزة الإعلام من صور لحرائق مدمرة في في استراليا وثلوج وأمطار غزيرة في شمال الكرة الأرضية، بجانب انفجار براكين ووقوع زلزال وأعاصير وإنهيار عمارات واصطدام طائرات وقطارات وعربات يتفحم من بداخلها ، وذلك بمعدلات ومقادير لم تعرف من قبل . هذا لاشك مرتبط بإفساد في الأرض متزايد تقوده دول كبرى دافعها التكبر والتجبر على من يخالفونها العقيدة أو الرأي أو ينافسونها في الحصول على أسلحة للدمار الشامل هي التي انتجتها واستغلتها في حربين عالميتين تهدد بأن تكون لهما ثالثة.
4- الدول الغنية تحمل الدول الفقيرة مسئولية إهدار الموارد الطبيعية بحكم ما تسميه الانفجار السكاني فيها . وحقيقة أن سكان الدول النامية البالغ عددهم 5 مليار نسمة من مجموع البشرية الذي وصل إلى 6 مليار عام 2000 يمثلون 84% من سكان الأرض، وهم ينمون بمعدل 4ر1% سنويا مقابل 3ر0% هي سرعة نمو سكان الدول الغنية . ولكن الاحصاءات الدولية توضح أن سكان الدول الغنية الذين يمثلون 16% من سكان العالم يتمتعون بنسبة 5ر79% من الناتج الاجمالي القومي للعالم بمستوى دخل للفرد يساوي متوسطه أضعاف متوسط دخل الفرد في العالم النامي بحوالي 21 مرة . كما تظهر الاحصاءات أنه بعكس ما يتوقع الاقتصاديون لا يدخر سكان الدول الغنية سوى 21% من دخولهم العالية مقابل 26% يدخرها سكان الدول الفقيرة من دخولهم المحدودة . كما تظهر الاحصاءات أن معدلات استثمارات الأغنياء أقل من معدل استثمارات الفقراء من دخولهم المحدودة بنسب 24% مقابل 26% . لهذا نجد أن الأغنياء يستهلكون نسبا أعلى من دخولهم من ما يستهلكه الفقراء . ففي الدول الغنية يستهلك الأفراد 63% من الناتج القـومي وتستهلك الدولة 16% . هذا في الوقت الذي تبلغ فيه هاتان النسبتان في الدول النامية 63% و 13% على التوالي . وهذا يجعل استهلاك الدول الغنية يصل إلى 79% من ناتجها الاجمالي الذي يمثل أربعة أخماس الناتج الإجمالي العالمي مقابل 76% من ناتج إجمالي يشكل خمس الناتج الدولي تستهلكه الدول النامية . وهذا يوضح بجلاء إن استنزاف موارد الأرض نابع من إسراف في الاستهلاك في الدول الغنية وليس من انفجار سكاني في الدول النامية كما يشيع اقتصاديو الدول الغنية.
5- على عكس ما يفترض من رفض الدول الصناعية منافسة الدول النامية لها في هذا القطاع تشير الدلائل كلها لاتجاه الدول الصناعية لتحويل الصناعات – التي هي المصدر الرئيسي لتلويث البيئة – إلى الدول النامية لتركز على الخدمات التي يقل فيها التلويث ، وليستغل عمالتها الرخيصة التي لا يزيد فيها الأجر على 5% من أجر العامل في الدول الغنية ، هذا بجانب توفر المواد الخام الرخيصة في الدول النامية . ولهذا تفاقمت معدلات البطالة في الدول الغنية وتكاثرت التظاهرات فيهاكل ما عقدت مؤسسات العولمة الكبرى (البنك الدولي وصندوق الدولة ومنظمة التجارة العالمية) اجتماعا في أي دولة صناعية.
6- النظام الرأسمالي يقوم على قطاع خاص حر في تعظيم أرباحه ولو على حساب المستهلك والعامل بل المجتمع كله والبيئة . والنظام الاشتراكي يؤمن للفرد احتياجاته المادية شريطة وأد روحه وارادته . ولكن النظام الإسلامي يجعل المنتج والمستهلك وكذلك الدولة والفرد شريكين في اتخاذ القرارات وتنفيذها ويجعل كلا منهما رقيبا ومحاسبا للآخر.
7- ما جاء في القرآن الكريم عن طالوت الذي أخبر بني اسرائيل نبيهم شموئيل بأن الله اختاره ملكا عليهم يعكس ضرورة تحكم رأس المال البشري لا رأس المال المادي في قيادة البشر. فقد قالوا "أن يكون له الملك علينا ولم يؤت سعة من المال"؟ فقال لهم النبي إن الله "آتاه بسطة في العلم والجسم"(البقرة الآية :247) والعلم والصحة يعتبرهما علماء اليوم مكوني رأس المال البشري . من الواضح أن العالم يحتاج لقيادة أصحاء الفكر والقلب لا أصحاب الثروات – لانفاذه من الدمار البيئي المتفاقم.
(تلخيص وتعقيب)
التنمية المتواصلة : المفاهيم والمستلزمات
(تقييم للفكر الوضعي ورؤية إسلامية)
المناقش : محمد هاشم عوض*
I- ملخص الدراسة
1) الدراسة حوت استعراضا شاملا لأدبيات الموضوع الذي تناولته . استعان فيه مقدمها بثمانية وثلاثين مرجعا منها 6 من التراث الإسلامي و 9 حديثة باللغة العربية و 23 باللغة الانجليزية وشملت الدراسة مختلف جوانب وقضايا موضوعها بدءا بمفهوم التنمية المتواصلة وما يرمز إليه البعض يعدالة توزيع الموارد الطبيعية بين الأجيال المتعاقبة ، وحماية البيئة من الاستنزاف بالتنمية المتواصلة التي يوضح الكاتب بروزها في الفكر الوضعي وفي رؤية المفكرين الإسلاميين مبينا سبق الفكر الاقتصادي الإسلامي المرتكز على مفهوم إلزام الإنسان بإعمار الأرض وعدم الإفساد فيها ، وعدم تنبه الفكر الوضعي له إلا في دعوة آدم سميث وريكاردو للحد من آثار النمو السكاني المتسارع على الموارد الطبيعية . إلا أن الفكر الكلاسيكي الذي يمثله هذان الاقتصاديان كان يحد من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي مع الدعوة لتعظيم المتعة (وليس المنفعة) الشخصية على نحو يسارع باستنزاف الموارد حتى ولو توقف نمو السكان. كما أن الفكر الكلاسيكي لم ينبه إلى مخاطر التصنيع المتزايدة على البيئة.
2) الدراسة أوضحت أيضا إضرار النشاطين الحكومي والخاص في الدول الصناعية بالبيئة التي تسببها السدود المائية وأساليب الري والمخلفات والعوادم الصناعية والمبيدات الكيماوية الزراعية ، وذلك في إطار السوق الذي لاتحكمه قوانين أو آليات أو سياسات لحماية البيئة . ولهذا رآى الكاتب ضرورة تدخل الدول المباشر في نشاط السوق لحماية البيئة تأمينا للتنمية المتواصلة.
3) أوضح الكاتب أن أولويات ومثاليات التنمية المتواصلة عند بعض المفكرين يجب أن تكون لصحة العالم البيئية والبيولوجية وليس للمصلحة الاقتصادية ، وأن يكون التركيز على الحد من تلويث الهواء والتربة والمياه مهما كانت التكلفة الاقتصادية والسياسية وذلك بقوانين وميثاق أخلاقي بهم يتم تأمين رفاه الأجيال القادمة . كما يرى هؤلاء المفكرون تنظيم نمو السكان ومنح المرأة المكانة اللائقة بها على نحو يختلف عن نمطية الأمومة السائدة في تفكير الرجال.
4) تبين الدراسة الارتباط القوي بين محاربة الفقر وحماية البيئة ومساعي الأمم المتحدة لرفع مستوى معيشة الفقراء - خاصة الذين يعانون من فترات جفاف أو حروب أهلية- باستراتيجيات ملائمة تستخدم القدر الأدنى من المدخلات لانتاج القدر الأكبر من المخرجات مع العدالة الاجتماعية داخل المجتمع وبين الأجيال المتعاقبة في إطار التنمية المتواصلة.
5) ينقل الكاتب ما ناقشه مؤتمر ريودي دجانيرو-البرازيل عام 1992 من ضرورة اضطلاع حكومات ديمقراطية قوية بمسئولية تخطيط ومراقبة استخدام الموارد الطبيعية مستعينة بالمنظمات الطوعية والجمعيات الأهلية التي لا تعمل لأجل الربح . كما تدعو لاضطلاع الحكومات مع المنظمات الطوعية والأهلية باتخاذ القرارات المناسبة للتنمية المتواصلة على المستوى القومي وحتى الدولي.
6) يقوم الباحث بتقويم مقدرة علم الاقتصاد الوضعي على مسايرة التنظير لمستلزمات التنمية المتواصلة حتى ولو بفرضيات مثالية تخضع للاختبار العملي علما بأن خبراءه يؤكدون أنه علم واقعي غير خاضع للقيم المثالية أو مهتم بالقضايا الأخلاقية . إلا أن بعض الاقتصاديين نبهوا إلى أن هذا المفهوم لما يسمى بالاقتصاد البحت لا يحقق تلقائيا وباستمرار الانتاج الأعظم . وهذا ما أبرز المدرسة الكينزية الداعية لتدخل الدولة سياسيا ماليا ونقديا للتخلص من الكساد . لكن مبادئ اقتصاد الرفاه ركزت على الماديات خاصة بانتاج يزيد من متع المستهلكين والتي تصبح معيار تقدم الأمم اقتصاديا . وهذا الانشغال بالمتعة في إطار فلسفة الثروة جعل الاقتصاد الوضعي ينسى مخاطر التسابق في الانتاج على حساب البيئة المتدهورة من تزايد الأدخنة والغازات والعوادم الصناعية التي تلقى في التربة والأنهار والبحار والمحيطات ، وكذلك المبيدات الحشرية والكيماويات الصناعية التي تسمد بها الأرض وهذا ما يستدعي مثيلا لكينز الذي أقنع الحكومة بالتدخل في السوق الحر لإنهاء الكساد العظيم. ولكن لا يوجد اليوم نظير لكينز يقنع العالم الحر بالتدخل لدرء الخطر المحدق بالعالم.
7) يتناول الباحث كيف يمكن التنظير للاستهلاك المعتدل والتنوع في إطار آليات السوق الحر خاصة أن اقتصاديات الرفاه التي اهتمت بهذه القضايا لم نقدم شيئا ملموسا في هذا المجال يجعل رجال الأعمال يعظمون أرباحهم بأقل ضرر على البيئة تتحمله الأجيال القادمة ، وهل يمكن فعل شئ في عالم الاقتصاد الحر الذي تسوده شعارات الخصخصة والعولمة وتخلي الحكومات عن مسئولية اشباع الاحتياجات العامة ؟ أم أن الاقتصاد الوضعي الذي يتجاهل هذه التحديات سيختفي مفسحا المجال لعلم اقتصاد جديد يستجيب للمعطيات الجديدة؟
8) يرى الكاتب أن الفكر الإسلامي شمل معظم أهداف التنمية المتواصلة بمختلف مفاهيمها ، وذلك باحكام شرعية وقيم إسلامية تدعو لترشيد الاستهلاك بعيدا عن الإسراف ، والملكيات الخاصة في إعمار الأرض بلا إفساد فيها لصالح الأجيال المتعاقبة . ويؤكد التزام المجتمع الإسلامي بهذه الموجهات برقابة حكومية تعمل بشرع الله للمنتجين والمستهلكين والقيام متى لزم الأمر بما يعجز آليات السوق عن تحقيقه واصلاح أي خلل في تلك الآليات . والدولة والأشخاص ملزمون باشباع حاجات الفقراء والمساكين وإيصالهم لمستوى الاكتفاء الذاتي . وذلك بالزكاة الفرضية والصدقات الطوعية والقروض الحسنة وغيرها مما يستأصل الفقر.
9) يشير الباحث إلى أن استمرار النظام الاقتصاد الاسلامي على مدى أربعة عشر قرنا تؤكد الاجتهادات المتأخرة صلاحية قواعده للتطبيق في كل زمان ومكان . وقد شملت أفكار باحثيه سلوك المستهلك والمنتج في ظل نظام ملتزم بالمصلحة العامة للمجتمع والعدالة في المعاملات التجارية والمالية وفي توزيع الدخل والثروات بين أفراد المجتمع . كما يشمل الفكر الاقتصادي الإسلامي قضية التنمية بمفهوم أوسع وأعمق منهجا وأكثر تماسكا من قضية التنمية المتواصلة في الفكر الوضعي الذي قد يستفيد كثيرا من سابقه في بحث قضية التنمية المتواصلة بأبعادها المختلفة.
10) يؤكد البحث أن المفهوم الإسلامي للتنمية المتواصلة مرتبط بإيمان عميق باتصال الحياة الدنيوية بأخرى أخروية يوجب الإعداد لهما معا في الحياة الأولى بأعمال مادية وروحية تحقق للإنسان أقصى درجات الرفاه المتوازن حقا . ويورد الباحث مفاهيم إسلامية للتنمية مستخلصة من قوله تعالى : [هو أنشأكم من الأرض واسخلفكم فيها] (هود: 61) . ويورد الباحث اجتهادات للاسلاميين المعاصرين في تحديد المفهوم الاسلامي للتنمية (منها ثلاثة للباحث نفسه) وربما نستطيع توحيدها على النحو التالي (من صفحة 24 من البحث):
"التنمية المتواصلة هي طلب عمارة الأرض والتمسك بعقيدة الإسلام – عقيدة التوحيد والربوبية والاستخلاف – في طلب عمارة الأرض وفق شرع الله بالقيام بالنشاط الانتاجي المفضي للكسب الحلال في مناخ اقتصادي واجتماعي يتوفر فيه الإيمان والتقوى وسيادة القيم الإسلامية وتجنب الحرام والاستغفار من ارتكابه مما يرسل السماء مدرارا ويزيد المال والبنين والزرع والماء فيحقق الكفاية والحياة الطيبة لأفراد المجتمع رجالا ونساءا وشبابا وطلابا".
II- ملاحظات حول البحث
1- اختار الباحث عبارة التنمية المتواصلة ترجمة للمصطلح الانجليزي sustainable development . ولكن الترجمة السائدة اليوم لهذا المصطلح هي "التنمية المستدامة" لأن كلمةsustainable الانجليزية يترجمها قاموس ويبستر Webster Dictionary بأنها to give support أو to provide sustenance ويعتبرها القاموس adjective أي صفة . كلمة sustainable تصف التنمية بأنها مدعومة أو مستندة على قوة ما تمنحها الاستمرارية . ووصف التنمية بأنها متواصلة (اسم فاعل نحوا) يوحي بأنها تتواصل ذاتيا في حين أن المقصود هو تنمية مدعومة (اسم مفعول) . ولهذا فإن مصطلح "التنمية المستدامة" يبدو الترجمة الأصح للمصطلح الانجليزي.
2- الله تعالى كلف الانسان بإعمار الأرض ولكنه سخر له في إعماره للأرض الكون كله كما تبين الآية الكريمة : [وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه أن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون] (الجاثية:131) بل أنه تعالى أشار إلى تطلع الإنس للوصول لمواقع أخرى في الكون وذلك في قوله تعالى :[يامعشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ما تنفذون إلا بسلطان] (الرحمن:34). وفسر السلطان المذكور بأنه سلطان العلم . وهناك حديث يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم فحواه أن لو تعلقت همة ابن آدم بالثريا لنالها . وقد وصل البشر في النصف الأخير من القرن العشرين إلى القمر . وهذا كله يدل على الموارد الكونية الهائلة المسخرة للبشر الذين استغلوا بالفعل مواد الأرض ومياهها وهواءها وطاقة الشمس بل وطاقة الذرة من ما يوحي بأنه لا حدود للموارد الممكن استغلالها . ولكن هذا لا يبيح إهدار الموارد التي هي نعمة من الله لكل الأجيال وشكرها حمده والمحافظة عليها.
3- الإفساد الشامل في الأرض في البر والبحر – وما ولده من كرب أبرزه الله تعالى في محكم تنزيله ، وذلك بقوله سبحانه :[ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذين عملوا لعلهم يرجعون] (آدم:41) . ويقول المفسرون (مثل جلال الدين السيوطي ) أنه كان يتمثل في القفار بقحط المطر وقلة النبات وفي البلاد التي على الأنهار بقلة مائها . وهذا ما نشهده اليوم بجانب ما تنقله أجهزة الإعلام من صور لحرائق مدمرة في في استراليا وثلوج وأمطار غزيرة في شمال الكرة الأرضية، بجانب انفجار براكين ووقوع زلزال وأعاصير وإنهيار عمارات واصطدام طائرات وقطارات وعربات يتفحم من بداخلها ، وذلك بمعدلات ومقادير لم تعرف من قبل . هذا لاشك مرتبط بإفساد في الأرض متزايد تقوده دول كبرى دافعها التكبر والتجبر على من يخالفونها العقيدة أو الرأي أو ينافسونها في الحصول على أسلحة للدمار الشامل هي التي انتجتها واستغلتها في حربين عالميتين تهدد بأن تكون لهما ثالثة.
4- الدول الغنية تحمل الدول الفقيرة مسئولية إهدار الموارد الطبيعية بحكم ما تسميه الانفجار السكاني فيها . وحقيقة أن سكان الدول النامية البالغ عددهم 5 مليار نسمة من مجموع البشرية الذي وصل إلى 6 مليار عام 2000 يمثلون 84% من سكان الأرض، وهم ينمون بمعدل 4ر1% سنويا مقابل 3ر0% هي سرعة نمو سكان الدول الغنية . ولكن الاحصاءات الدولية توضح أن سكان الدول الغنية الذين يمثلون 16% من سكان العالم يتمتعون بنسبة 5ر79% من الناتج الاجمالي القومي للعالم بمستوى دخل للفرد يساوي متوسطه أضعاف متوسط دخل الفرد في العالم النامي بحوالي 21 مرة . كما تظهر الاحصاءات أنه بعكس ما يتوقع الاقتصاديون لا يدخر سكان الدول الغنية سوى 21% من دخولهم العالية مقابل 26% يدخرها سكان الدول الفقيرة من دخولهم المحدودة . كما تظهر الاحصاءات أن معدلات استثمارات الأغنياء أقل من معدل استثمارات الفقراء من دخولهم المحدودة بنسب 24% مقابل 26% . لهذا نجد أن الأغنياء يستهلكون نسبا أعلى من دخولهم من ما يستهلكه الفقراء . ففي الدول الغنية يستهلك الأفراد 63% من الناتج القـومي وتستهلك الدولة 16% . هذا في الوقت الذي تبلغ فيه هاتان النسبتان في الدول النامية 63% و 13% على التوالي . وهذا يجعل استهلاك الدول الغنية يصل إلى 79% من ناتجها الاجمالي الذي يمثل أربعة أخماس الناتج الإجمالي العالمي مقابل 76% من ناتج إجمالي يشكل خمس الناتج الدولي تستهلكه الدول النامية . وهذا يوضح بجلاء إن استنزاف موارد الأرض نابع من إسراف في الاستهلاك في الدول الغنية وليس من انفجار سكاني في الدول النامية كما يشيع اقتصاديو الدول الغنية.
5- على عكس ما يفترض من رفض الدول الصناعية منافسة الدول النامية لها في هذا القطاع تشير الدلائل كلها لاتجاه الدول الصناعية لتحويل الصناعات – التي هي المصدر الرئيسي لتلويث البيئة – إلى الدول النامية لتركز على الخدمات التي يقل فيها التلويث ، وليستغل عمالتها الرخيصة التي لا يزيد فيها الأجر على 5% من أجر العامل في الدول الغنية ، هذا بجانب توفر المواد الخام الرخيصة في الدول النامية . ولهذا تفاقمت معدلات البطالة في الدول الغنية وتكاثرت التظاهرات فيهاكل ما عقدت مؤسسات العولمة الكبرى (البنك الدولي وصندوق الدولة ومنظمة التجارة العالمية) اجتماعا في أي دولة صناعية.
6- النظام الرأسمالي يقوم على قطاع خاص حر في تعظيم أرباحه ولو على حساب المستهلك والعامل بل المجتمع كله والبيئة . والنظام الاشتراكي يؤمن للفرد احتياجاته المادية شريطة وأد روحه وارادته . ولكن النظام الإسلامي يجعل المنتج والمستهلك وكذلك الدولة والفرد شريكين في اتخاذ القرارات وتنفيذها ويجعل كلا منهما رقيبا ومحاسبا للآخر.
7- ما جاء في القرآن الكريم عن طالوت الذي أخبر بني اسرائيل نبيهم شموئيل بأن الله اختاره ملكا عليهم يعكس ضرورة تحكم رأس المال البشري لا رأس المال المادي في قيادة البشر. فقد قالوا "أن يكون له الملك علينا ولم يؤت سعة من المال"؟ فقال لهم النبي إن الله "آتاه بسطة في العلم والجسم"(البقرة الآية :247) والعلم والصحة يعتبرهما علماء اليوم مكوني رأس المال البشري . من الواضح أن العالم يحتاج لقيادة أصحاء الفكر والقلب لا أصحاب الثروات – لانفاذه من الدمار البيئي المتفاقم.